الإجارة من أَجَر يأجِرُ، وهو ما أعطيت من أجر في عمل، والأجر: الثواب الذي يكون من الله عز وجل للعبد على العمل الصالح، والجمع أجور، وأجْر المرأة مهرها، وفي التنزيل: {ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن } (الأحزاب: 50)، والمعروف في تفسير الأُجْرة هو ما يعطى الأجير في مقابلة العمل (1).
وقد دل على ذلك القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والمعقول.
1- القرآن الكريم:
قال الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} (الطلاق: 6)، وفي هذه الآية دليل على مشروعية الإجارة، حيث أمر الله تعالى بإعطاء الزوجة الأجرة على الرضاع، فأجاز الإجارة على الرضاع، وإذا جازت عليه جازت على مثله، وما هو في معناه (3).
2- السنة النبوية:
عن عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة قالت: واستأجر النبي [ وأبوبكر رجلًا هاديًا خرتيًا، وهو على دين كفار قريش، وأمَّناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث، فارتحلا وأخذ بهم طريق الساحل (4).
وهذا الحديث دليل على مشروعية الإجارة، فقد بين أن الأجرة عوض عن المنافع، وقد دلت السنة بالقول والفعل والتقرير من رسول الله .
ثالثًا: أركان الإجارة:
بادئ ذي بدء أقول: اختلف الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في تعداد أركان عقد الإجارة على قولين (7).
القول الأول: ذهب الحنفية في قول إلى أن ركن الإجارة هو الصيغة المتمثل في الإيجاب والقبول.
القول الثانـي: وذهب المالكية في قول، والشافعية، والحنابلة، إلى أن أركان الإجارة ثلاثة، الصيغة: (الإيجاب والقبول)، والعاقدان: (المؤجر والمستأجر)، والمعقود عليه: (المنفعة والأجرة).
فالخلاف الناشئ بين الفقهاء يكمن في تعريفهم للركن، وهو خلاف لفظي لا أكثر، ولا يترتب عليه اختلاف في العمل، لأن ذكر الإيجاب والقبول يستلزم وجود العاقدين، فهما اللذان يصدر عنهما الإيجاب والقبول، وكذلك يستلزم وجود المعقود عليه وهو المحل، فالخلاف لفظي لا ثمرة له، وكما هو معلوم لا مشاحة في الاصطلاح.
الركن الأول: الصيغة:
وهي الإيجاب والقبول الذي يصدر من المتعاقدين بإظهار إرادتهما من لفظ أو ما يقوم مقامه في إنشاء العقد، وهو دليل على الرضا بين المتعاقدين، وقد أناط الشارع الحكيم صحة العقود بالرضا، حيث قال في محكم التنزيل: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } (النساء: 29)، ولما كان الرضا أمرًا خفيًّا أقام الفقهاء مقامه الصيغة وجعلوها ركنًا في عقد الإجارة، وتكون بالقول أو الفعل كما في التعاطي أو بالإشارة أو الكتابة والرسالة، وبيان ذلك في الأحكام التالية:
الحكم الأول: انعقاد الإجارة بالقول:
لقد اتفق الفقهاء على انعقاد الإجارة بالقول الصريح والقول الكنائي، ومثال القول الصريح على انعقاد الإجارة: «استأجرت أو اكتريت وأجرت أو أكريت»، ومثال انعقادها بالكناية: «ملكتك منافع هذه الدار سنة بكذا، أو اسكن داري شهرًا بكذا» (8).
الحكم الثاني: انعقاد الإجارة بلفظ البيع، فيه قولان (9):
القول الأول: يرى جواز انعقاد الإجارة بلفظ البيع، وهو القول الأظهر عند الحنفية إذا وجد التأقيت، وقول للمالكية، وأحد قولي الشافعية، ورواية عند الحنابلة.
القول الثانـي: ذهب الحنفية في قول مرجوح، والشافعية في الصحيح، وأحمد في رواية، إلى عدم جواز انعقاد الإجارة بلفظ البيع.
الحكم الثالث: انعقاد الإجارة بالفعل (المعاطاة)، فيه ثلاثة أقوال (10):
القول الأول: تنعقد الإجارة بالمعاطاة في القليل والكثير، وهو أحد الأقوال عند الحنفية، وقول للمالكية، وقول لبعض فقهاء الشافعية، ورواية عند الحنابلة.
القول الثانـي: يجوز انعقاد الإجارة بالمعاطاة في الأشياء الخسيسة دون النفيسة، وهو قول عند الحنفية، وقول للشافعية، ورواية عند الحنابلة.
القول الثالث: لا يجوز انعقاد الإجارة بالمعاطاة، وهو قول عند بعض الحنفية في المدة الطويلة، والقول المعتمد عند الشافعية.
الحكم الرابع: انعقاد الإجارة بالإشارة:
لقد اتفق الفقهاء على صحة العقد بإشارة الأخرس إذا كانت مفهومة لدلالتها على ما يدل عليه نطقه، ولأنها تقوم مقام لفظه للضرورة، ولو كلف بأن يوكل على كل عقد من عقوده لكان فيه حرج عليه وضرر به (11).
الحكم الخامس: انعقاد الإجارة بالكتابة والرسالة:
لقد اتفق الفقهاء على أن الكتابة والرسالة يقومان مقام الخطاب في صحة عقد الإجارة بهما، فإذا كتب لغائب يقول له: بعتك أو أجرتك داري بكذا، أو أرسل رسولًا فقبل في المجلس صح العقد، ويشترط القبول من المكتوب إليه حال الاطلاع؛ ليقترن الإيجاب بالقبول، فإذا قبل فله الخيار مادام في مجلس قبوله، وثبت الخيار للكاتب ممتدًا إلى أن ينعقد خيار صاحبه، وإن كتب لحاضر صح أيضًا، ولابد أن تكون الكتابة مستبينة، فإن كانت غير ذلك كالكتابة على الماء أو في الهواء لـم ينعقد العقد (12).
الركن الثاني: العاقدان:
ويقصد بهما المؤجِّر وهو: المالك، والمستأجر وهو: طالب الشيء المؤجَّر، وهما اللذان يصدر عنهما الإيجاب والقبول، وليس كل إنسان يصلح أن يكون عاقدًا ويعتبر إيجابه وقبوله.
ولذلك اشترط الفقهاء في العاقدين شروطًا معينة، منها ما يتعلق بالأهلية، ومنها ما يتعلق برضا المتعاقدين، وبيان ذلك فيما يلي:
الشرط الأول: أهلية المتعاقدين:
ويقصد بالأهلية في اصطلاح الفقهاء بصلاحية الشخص لثبوت الحقوق المشروعة له، ووجوبها عليه، وصحة التصرفات منه (13).
وقد اتفق الفقهاء على اشتراط الأهلية في عاقدي الإجارة كما في عاقدي البيع، وذلك بالتمييز والعقل، فلا يصح العقد في الإجارة من مجنون ولا صبي غير مميز، وذلك لانعدام أهلية الأداء عندهما، واختلفوا في صحة عقد الصبي المميز على قولين.
الشرط الثانـي: التراضي بين العاقدين:
إن الرضا هو مناط صحة العقود، والذي يُعبّر عن رضا المتعاقدين وإرادتهما في إنشاء العقد هو: الإيجاب والقبول الصادر منهما، ولكنه لا يصلح إلا إذا صدر عن طواعية واختيار من المتعاقدين، ولذلك اختلفوا في صحة العقد إذا صدر عن إكراه، وبيان ذلك كالآتــــي:
فالإكراه إما أن يكون بحق أو بغير حق، وتوضيحه فيما يلي:
الإكراه بحق: فإنه لا يؤثر في صحة العقد ونفاذه، كمن أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه (14)، أو من أكره على تأجير سيارته لنقل المصابين، أو داره لإيواء المحتاجين.
الإكراه بغير حق، فيه قولان (15):
القول الأول: وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة، ودليلهم على أن الإكراه يؤدي إلى بطلان العقد قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} (النساء: 29).
فدلت الآية على أن الرضا بين المتعاقدين شرط لصحة العقد، وعقد المكره حصل بغير رضاه، فدل على أنه عقد غير صحيح، ولذلك فهو باطل، وكذلك لقول رسول الله [: «إنما البيع عن تراض» (16).
القول الثانـي: ذهب الحنفية إلى أن عقد المكره ينعقد فاسدًا، ولكنه غير لازم، فله الفسخ بعد زوال الإكراه عنه، وذلك راجع إلى تفريقهم بين الفاسد والباطل، حيث يرون أن الفاسد: ما كان مشروعًا بأصله، وممنوعًا بوصفه، حيث عرض له ما أفسده كاختلال شرط من شروطه، أما الباطل: فهو ما كان غير مشروع بأصله وممنوعًا بوصفه (17).
فيتضح أن الحنفية متفقون مع الجمهور بأن الإكراه مؤثر في عقد الإجارة ولكنه يقع فاسدًا وليس باطلًا.
الركن الثالث: المعقود عليه:
ويتمثل هذا الركن في المنفعة والأجرة.
أما المنفعة، فقد اشترط الفقهاء لها شروطًا (18)، أسوقها إجمالًا:
- أن تكون المنفعة متقومة.
- أن تكون المنفعة مقدورًا على تسليمها.
- ألا يتضمن استيفاء المنفعة استهلاك العين.
- أن تكون المنفعة معلومة.
- أن تكون المنفعة مباحة.
وأما الأجــــرة، فهي في عقد الإجارة إما أن تكون نقدًا أو عينًا أو منفعة، وقد اتفق الفقهاء على جواز الأجرة بالنقد والعين والمنفعة (19).
رابعًا: نوعا الإجارة:
النوع الأول: الإجارة على المنافع: أي أن المعقود عليه هو المنفعة كاستئجار الدور والأرض والدواب والثياب وما أشبه ذلك.
1) أحكام إجارة المنافع:
لقد اتفق الفقهاء على جواز انعقاد الإجارة على المنافع المباحة بخلاف المنافع المحرمة، فإن العقد عليها غير جائز كالميتة والدم والغناء والزمر، وحمل الخمر للشرب، أو المعجوز عنه، كنفع الآبق والمغصوب أو المغني للعين كشعل الشمع، أو المتعذر منها كزرع الأرض السبخة؛ لأن أخذ العوض عليها حرام والعقد باطل (20).
2- كيفية ثبوت حكم عقد الإجارة، فيه قولان (21):
القول الأول: ذهب الحنفية، والمالكية إلى أن وقوع الملك في البدلين إنما يكون ساعة مشاعة إلا بشرط التعجيل.
القول الثاني: وذهب الشافعية، والحنابلة إلى أن حكم الإجارة إنما يثبت في الحال وتجعل مدة الإجارة موجودة تقديرًا، كأنها أعيان قائمة.
3- متى تجب الأجرة وتملك؟ فيه رأيان (22):
الرأي الأول: لقد ذهب الحنفية والمالكية إلى القول بأن الأجرة تستحق بأحد معانٍ ثلاثة:
1- بشرط التعجيل.
2- بالتعجيل من غير شرط.
3- باستيفاء المعقود عليه.
فقوله بشرط التعجيل يستحق الملك، لأن الاتفاق شريعة المتعاقدين، وأنهما تراضيا على ذلك الشرط فصح، وكذلك قوله بالتعجيل من غير شرط، فالمستأجر له ذلك، وذلك بمثابة تعجيل الدين المؤجل
وتقديم الزكاة، وأما قوله باستيفاء المعقود عليه، وهو المنافع شيئًا فشيئًا، أو بالتملك من الاستيفاء بتسليم العين المؤجرة إلى المستأجر؛ لأنه يملك المعوض وهي المنفعة فيملك المؤجر العوض وهو الأجرة تحقيقًا للمعادلة بين المتعاقدين، والقياس يتطلب ذلك كقبض المبيع واستهلاكه.
الرأي الثاني: أما الشافعية، والحنابلة، فقد قرروا بالنسبة لتأجيل الأجرة وتعجيلها، أنه إذا كانت الأجرة إجارة ذمة فيشترط فيها تسليم الأجرة في مجلس العقد؛ لأنها بمثابة رأس المال في عقد السلم، كأن يقول المستأجر: أسلمت إليك عشرين درهمًا في جملٍ صفته كذا، ليحمل لي متاعي إلى جهة كذا، أو يقول استأجرت منك بكذا، لأن تأخير الأجرة حينئذ من باب الدين بالدين، وإذا كانت الإجارة إجارة عين، فإن كانت الأجرة فيها معينة كاستأجرت منك هذا العبد ليخدمني سنة بكذا، وليخيط هذا الثوب بكذا، فهنا لا يصح تأجيلها، لكن إذا كانت في الذمة، كأن يقول استأجرت منك جملًا صفته كذا، لأركبه سنة بكذا، أو إلى بلد كذا بكذا، فحينئذ يجوز تأجيلها وتعجيلها، وفي حالة الإطلاق يجب تعجيلها كما في عقد البيع يصح بثمن حالٍّ أو مؤجل.
4- مدى انتفاع المستأجر بالعين المؤجرة:
اتفق الفقهاء على أن المستأجر له حق الانتفاع بالعين المؤجرة من السكنى بنفسه، أو إسكان غيره بالتأجير، أو بالإعارة إذا لـم يوجد شرط في العقد يقيد التصرف بالعين المؤجرة، فمثلًا «إن استأجر دارًا؛ ليتخذها سكنًا، فلا يحق له أن يتخذها لغير ذلك (23)، لكن إن أطلق العقد فيحمل التصرف بما تعارف عليه، بمعنى أن له أن يعمل كل شيء سوى ما يوهن البناء، كالحدادة والقصارة والطحن ونحو ذلك؛ لأن المتعارف عليه لدى الناس لا يشمل هذه الحِرَف؛ لكونها تتلف العين المؤجرة، والإجارة بيع المنفعة لا بيع العين (24).
5- إصلاح العين المؤجرة، فيه أقوال ثلاثة (25):
القول الأول: لقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية، والشافعية، والحنابلة، إلى القول بأن المؤجر ملزم بعمارة داره وإصلاح كل ما يخل بالسكنى، فإن أبـي حُقَّ للمستأجر فسخ العقد إلا إذا كان استأجرها على حالها.
القول الثاني: هو قول للحنفية، ومذهب المالكية، بعدم إجبار الآجر على الإصلاح ويخير المستأجر بين السكنى، ويلزمه الكراء كاملًا، والخروج منها، ولو قام المستأجر بإصلاحات في العين المؤجرة دون إذن مسبق من المؤجر فهو تبرع منه، وبعد انقضاء المدة خُيِّر رب الدار بين دفع قيمة الإصلاح منقوضًا أو أمره بنقضه إن أمكن فصله.
القول الثالث: قال الحنابلة: إن اشتراط تبقية المستأجر ما يغرسه، أو يبينه في العقد لا يؤثر فيه.
6- التزامات المستأجر بعد انتهاء الإجارة:
بعد انتهاء مدة الإجارة يلتزم المستأجر بتسليم مفتاح الدار والحانوت إلى المؤجر، وإذا استأجر دابة من موضع معين في البلد ليركبها، أو ليحمل عليها شيئًا إلى مكان معلوم غاديًا ورائحًا، فعلى المستأجر أن يأتـي بها إلى الموضع الذي قبضها منه، لأن عقد الإجارة لا ينتهي إلا برد الدابة إلى موضعها، فإن ذهب بها إلى منزله فأمسكها حتى عطبت كان ضامنًا للقيمة؛ لتعديه في أخذها إلى غير موضع العقد (26).
النوع الثانـي: الإجارة على الأعمال:
والإجارة على الأعمال هي التي تعقد على عمل معلوم كبناء وخياطة قميص وحمل إلى موضع معين وصباغة ثوب وإصلاح حذاء ونحو ذلك.
والأجير نوعان (27): أجير خاص، وأجير مشترك.
1) الأجير الخاص: وهو من يعمل لواحد، ويسمى أجير وحد، ويستحق الأجر بتسليم نفسه مدته، كمن استؤجر للخدمة سنة، أو لرعي الغنم ولا يضمن ما تلف في يده وبعمله، وحكمه: أنه لا يجوز له العمل لغير مستأجره.
2) الأجير المشترك: وهو الذي يعمل لغير واحد، أي لعامة الناس، ولا يستحق الأجر حتى يعمل كالصباغ والقصار والحداد ونحوهم، والمتاع في يده أمانة لا يضمن إن هلك وإن شرط ضمانه، به يُفتى عند الحنفية، وعند الصاحبين يضمن وهذا وفاقًا لمالك، وقول للشافعي، وليس لمن استأجره أن يمنعه عن العمل لغيره.
ويلاحظ أن الظئر التي تستأجر للإرضاع هي بمنزلة الأجير الخاص، حيث لا يجوز لها أن ترضع صبيًّا آخر، فإن أرضعته مع الصبي الأول فقد أساءت وأثمت إن كانت أضرت بالصبي، إلا أن أجر إرضاعهما لا يسقط عنها استحسانًا؛ لأن المعقود عليه مطلق الإرضاع، وقد وجد القياس ألا يكون لها الأجر؛ لأن العقد وقع على عملها فلا تستحق الأجر بعمل غيرها.